Concours Commun UM6SS 2025-2026
ismagi

التوجيه المدرسي والمهني في عصر التحولات الرقمية : قراءة في أطروحة أنطوني غوردون واتس

ab youssef

مشرف منتدى tawjihnet.net
طاقم الإدارة
التوجيه المدرسي والمهني في عصر التحولات الرقمية : قراءة في أطروحة أنطوني غوردون واتس
Anthony Gordon Watts
بقلم، عبد العزيز سنهجي
عبد العزيز سنهجي التوجيه المدرسي والمهني في عصر التحولات الرقمية قراءة في أطروحة أنطوني غوردون...jpg

يشهد العالم في العقود الأخيرة تحولات رقمية متسارعة أحدثت تغيرات جوهرية في بنية التكوين والاقتصاد وسوق الشغل، وفي طبيعة المهارات المطلوبة وأنماط التعلم والعمل. وأمام هذه التحولات، أصبحت نظم التوجيه مطالبة بإعادة النظر في أساليبها وأدوارها ومقارباتها، لتصبح أكثر قدرة على مواكبة السياقات الرقمية الجديدة. وفي هذا الإطار، تبرز أطروحة الباحث البريطاني Anthony Gordon Watts، أحد أبرز المنظرين في مجال التوجيه وإدارة مسارات الأفراد. ويعد Watts من الأسماء الدولية المؤثرة، التي بلورت صيغا حديثة للتوجيه، وقد اشتغل باحثا بجامعة كامبريدج وعضوا في المركز الوطني للإرشاد المهني بالمملكة المتحدة، كما عمل خبيرا لدى منظمات دولية كبرى مثل اليونسكو، منظمة التعاون والتمية الاقتصادية، ومنظمة العمل الدولية. وتعد دراساته، وخصوصا مساهمته في تقرير اليونسكو حول التكوين المهني لسنة 2013، مرجعا رئيسيا في إعادة تصور التوجيه كتدخل استراتيجي في الأنظمة التعليمية والتكوينية.

تنطلق رؤية Watts من اعتبار التوجيه مسارا مستمرا مدى الحياة، وليس تدخلا ظرفيا مرتبطا بلحظة اختيار دراسي أو مهني. فالعالم الذي يتغير بسرعة بفعل الرقمنة يتطلب قدرة عالية على التنقل بين الفرص، وتملك مهارات تحليل المعلومات المهنية، واتخاذ القرارات في بيئات معقدة تتداخل فيها الخوارزميات مع المعطيات الاقتصادية. ومع توسع اقتصاد المعرفة واندثار العديد من المهن التقليدية، أصبحت الحاجة ملحة إلى مقاربة جديدة تركز على بناء مهارات إدارة المسارات، أكثر من التركيز على قرار نهائي أو الإعداد لمهنة محددة.

وتشير أطروحة Watts إلى أن وفرة المعلومات المهنية عبر المنصات الرقمية، رغم أهميتها، قد تشكل تحديا للمتعلمين الذين يفتقرون إلى القدرة على تقييم مصادرها أو فهم خلفياتها الخوارزمية. فالتكنولوجيا، بقدر ما تتيح فرصا واسعة للوصول إلى البيانات المهنية، قد تحدث فجوات جديدة وتعيد إنتاج أشكال من التمييز غير المرئي. وهنا يتحول دور المستشار إلى دور مركزي يقوم على مرافقة المتعلم في تحليل المعلومات، وفهم السياقات، وتنمية وعي مهني نقدي يسمح له باتخاذ قرارات أكثر رشدا وعقلانية. ولذلك يرفض Watts اختزال التوجيه في منصات رقمية أو توظيف خوارزميات، ويؤكد أن التكنولوجيا يجب أن تكون جزءا مكملا لا بديلا عن المواكبة والإرشاد الإنساني.

وضمن هذا السياق، يشير تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDE لعام 2024، أن كمية المعلومات المتاحة للشباب باتت هائلة، لكنها غير متساوية في الجودة أو الدقة أو الولوج. فالتقنيات الرقمية قد تدعم التوجيه، لكنها قد تحجب أيضا جوانب أو تبرز أخرى وفق خوارزميات غير شفافة. وتقوم المقاربة الحديثة على ضرورة أن يصبح الفاعل في التوجيه مواكبا للشباب في التعامل الواعي والنقدي مع هذه المعلومات، وعلى تقييم موثوقيتها، وإدراك تحيزاتها. وهنا يلتقي تصور Watts مع ما جاء في تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية الذي يؤكد أن التكنولوجيا تعد فرصة للتوجيه إذا استعملت في إطار تربوي قائم على التحليل والنقد، لكنها قد تصبح خطرا إن استخدمت دون رقابة أو مساءلة نقدية.

ويضيف تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية إلى أن التقنيات الرقمية توسع فرص الوصول إلى التوجيه وتساهم في تعزيز النظرة الشمولية، خاصة من خلال المنصات الرقمية، وأنظمة التقييم الإلكترونية، وأدوات التوجيه عن بعد. لكنه يوضح أيضا أن الاستفادة من هذه التقنيات ليست متكافئة، إذ توجد فجوة رقمية واضحة بين المتعلمين، وبين المدارس، وبين الفئات الاجتماعية. كما يحذر التقرير من الاعتماد الكامل على البيانات الرقمية في اتخاذ القرارات الدراسية والمهنية، لأن هذه البيانات قد تكون بنفسي تجاري أو خاضعة لتحيزات خوارزمية. وهذا الطرح يتقاطع بدقة مع رؤية Watts الذي يدافع عن التوازن بين التكنولوجيا والبعد الإنساني في التوجيه، ويرى أن المستشار لا يمكن أن يستبدل بخوارزميات، مهما بلغت دقتها.

كما يولي Watts أهمية كبرى لإرساء علاقة قوية بين مؤسسات التربية والتكوين وسوق العمل، بحيث لا يبقى التوجيه نشاطا مدرسيا معزولا عن إطاره السوسيومهني، بل عملية تنسيق مستمرة مع الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين. ويرى أن الفاعل في التوجيه ينبغي أن يلعب دور الوسيط بين المدرسة ومحيطها الاقتصادي والاجتماعي، عبر تعبئة وبناء شراكات مهنية، وتحديث قواعد المعطيات حول فرص التدريب والتشغيل، ومتابعة إدماج الخريجين. فالنجاح الدراسي والمهني للمتعلمين يتطلب معرفة دقيقة بواقع سوق الشغل، لا بالاختيارات الافتراضية أو الصور النمطية التي تقدمها بعض المنصات.

وبناء على هذه الأسس النظرية، يقترح Watts نموذجا مهنيا إرشاديا للمستشارين يركز على ثلاث مكونات متكاملة. يتجلى المكون الأول، في بناء مهارات إدارة وهندسة المسارات لدى المتعلمين، عبر تطوير وعيهم بذواتهم، وتعليمهم كيفية تقييم الميولات وتحليل القيم، وربطها بفرص التعليم وسوق الشغل. أما المكون الثاني، فيتمثل في دمج التوجيه الرقمي في منظومة التربية والتكوين، من خلال توفير منصات موثوقة، واستخدام أدوات تقييم رقمية، وتقديم الدعم الرقمي دون المساس بجوهر العملية الإرشادية. ويتمثل المكون الثالث، في تعزيز موقع المستشار كفاعل وسيط بين المؤسسة التعليمية والقطاع الاقتصادي والاجتماعي، من خلال تنظيم زيارات ميدانية، واستضافة مهنيين، والتنسيق مع مؤسسات التدريب والتأهيل، ومساعدة المتعلمين على الانتقال السلس بين عوالم التعليم والتكوين والعمل.

ويكتسي هذا النموذج أهمية خاصة في السياق المغربي الذي تواجهه تحديات متعددة ومتداخلة، من بينها محدودية الوعي لدى المتعلمين بميولاتهم وقدراتهم وضعف ترسيخ ثقافة التخطيط للمسار المهني، إضافة إلى النقص العددي في صفوف الفاعلين القادرين على تطوير مهارات إدارة المسارات بشكل فعال. كما يواجه إدماج التوجيه الرقمي عراقيل مرتبطة بتفاوت البنيات التحتية الرقمية بين المؤسسات، وضعف التكوين في استعمال الأدوات الرقمية، وغياب منصات موثوقة للمعلومات الدراسية والمهنية. إضافة لغياب تنسيق مؤسساتي منتظم مع الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعين، وقلة المبادرات المهنية مثل الزيارات واللقاءات مع المهنيين، إضافة إلى محدودية انخراط المقاولات في دعم التوجيه. وتتفاقم هذه الإشكالات بفعل عوامل اجتماعية وثقافية، كهيمنة التصورات التقليدية للأسر حول المهن وتفاوت الفرص بين الجهات والأقاليم، فضلا عن نقص البيانات الدقيقة حول حاجيات سوق الشغل. وبالرغم، من كل ما سبق، يظل الاستئناس بمنظور Watts كفيل بالإسهام في تطوير نظام التوجيه ليصبح أكثر عدلا وفعالية، وأكثر قدرة على دعم المتعلمين في بناء مسارات مهنية مستدامة. فالتوجيه، وفق هذا التصور، ليس نشاطا لحظيا أو ثانويا، بل رافعة تربوية وتنموية تدعم الإدماج الاقتصادي والاجتماعي، وتستجيب للتحولات الرقمية المتسارعة.

إن إعادة هندسة تصور التوجيه وفق رؤية Watts تمثل خطوة أساسية نحو بناء منظومة تربوية حديثة قادرة على تمكين الشباب من مهارات المستقبل. فالمستشار، وفق هذا النموذج، ليس مجرد مقدم نصائح أو معلومات، بل خبير في تحليل واستشراف المسارات المهنية والدراسية للمتعلم، ومرافق تربوي، وشريك استراتيجي للمؤسسة وسوق الشغل، وفاعل أساسي في ضمان جودة الدعم المقدم للمتعلمين.

في النهاية، يمكن لأطروحة Watts أن توفر إطارا نظريا وعمليا لتحديث نظام التوجيه، وذلك من خلال المزاوجة بين المقاربة التربوية الإنسانية من جهة، والتكنولوجية الرقمية من جهة أخرى، حيث يصبح من الممكن بناء منظومة توجيه أكثر فعالية في توجيه ومواكبة الشباب، وأكثر قدرة على الاستجابة للتحولات الاقتصادية والاجتماعية السريعة، وأقدر على مساعدة المتعلم في بناء وهندسة مساره المهني والحياتي في عالم ما فتئ يتطور ويتغير باستمرار.​

المراجع :

 Watts, A. G. (2013). Career Guidance and Orientation. In: Revisiting Global Trends in TVET. UNESCO-UNEVOC International Centre
 OECD. (2024). Digital Technologies in Career Guidance for Youth: Opportunities and Challenges. Education Policy Perspectives, No.113. OECD Publishing, Paris​
 
عودة
أعلى