التيسير: قناة للعبور بين التلقين والتحول الذاتي
بقلم، ذ. عبد العزيز سنهجي
بقلم، ذ. عبد العزيز سنهجي
سبق لي أن قمت بقراءة أولية للإطار المرجعي للتيسير ، الذي أُنجز في إطار التعاون بين وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، وجامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية. وقدمت خلاصة مركزة لشكل هذا الإطار ومضمونه، أملا في فتح نقاش تربوي مثمر حوله. وخلال هذا العمل، تبلورت لدي قناعة مفادها أن مفهوم "التيسير" لم يحظ بالاهتمام والمعالجة الكافيين داخل هذه الوثيقة. وقد دفعني ذلك إلى تعميق البحث والتفكير في الفلسفة والبيداغوجيا التي يقوم عليها هذا المفهوم.
ويكتسي هذا الأمر ، في تقديري الخاص، أهمية بالغة، لأن المفهوم يحمل دلالات ومعاني دقيقة؛ وإذا لم يتم ضبطها بدقة، فقد يؤدي ذلك إلى انزلاقات في التفكير والممارسة، مما قد يهدد هذه المقاربة الواعدة، التي يفترض أن تسهم في إرساء رؤية تجعل من التيسير أداة استراتيجية لقيادة التغيير، ووسيلة لبلورة ثقافة مهنية مشتركة.
وفي هذا السياق، رجعت إلى ما كتبه "دونيس كريسطول" بتاريخ 8 أكتوبر 2025، حيث أكد أن تاريخ التربية الغربية يتأسس على نظامين رئيسيين في أنماط التعلم: يتمثل النظام الأول، فيما يمكن تسميته «بيداغوجيا التحويل». وقد ورث هذا النموذج عن التقليد الأفلاطوني والديانة المسيحية الأولى تصوره للتعليم باعتباره توجيها للروح نحو حقيقة متعالية. يمثل المعلم في هذا الإطار سلطة معرفية عليا، يبعد المتعلم عن عالمه الداخلي ليلتزم بمعيار أعلى. ويقوم الفعل التربوي هنا على علاقة عمودية بالمعرفة؛ فالمعلم هو الموصل إلى الحقيقة، يصحح المسار ويصادق على تقدم المتعلم وفق تعبير "هادوت". أما النظام الثاني، الذي يمكن تسميته «التربية التحولية» أو «التربية الميتامورفية»، فهو متجذر في الفلسفة الرواقية وفكرة «العناية بالذات» لدى الحكماء القدماء. المعرفة هنا لا تفرض من الخارج، بل تبنى عبر فحص الذات واستيعاب التجربة وتحول الشخصية. ويصبح المعلم، حين يوجد، مجرد مرافق يساعد كل فرد على اكتشاف حقيقته الخاصة في مسار للتحرر الذاتي من الإكراهات الاجتماعية حسب "فوكو".
غير أن التيسير، باعتباره فنا لمرافقة الجماعات في عملية التعلم، لا يندرج ضمن أي من هذين القطبين. فهو يشكل فضاء معرفيا ثالثا يجمع بين تحليل ومساءلة التجربة المعاشة، والنقد الاجتماعي، والغاية التحررية. هنا، يركز التيسير قبل كل شيء على التجربة الحية، إذ يهتم بما «يعاش هنا والآن» داخل التفاعل الإنساني، وبالحضور المشترك الذي ينشئ عالما جماعيا من المعنى. حيث يدعو التيسير إلى «تعليق الأحكام الجاهزة» من أجل استقبال الظاهرة كما هي حسب "هوسرل". فاللقاء التربوي ليس مجرد وسيلة لنقل المعارف، بل هو المجال الذي تتولد فيه المعرفة ذاتها.
وقد أظهرت دراسات حول بيداغوجيا الكبار أهمية اللحظة المشتركة في بناء المعنى. حيث لا يقدم الميسر دروسا أو عقائد، بل يهيئ تجربة جماعية تتحول فيها الكلمة، الصمت، الإيماء، والإنصات إلى مصادر للمعرفة. أما ما يعرف بـ«الحياد الفعال» فليس انسحابا، بل هو انفتاح واستعداد لخلق فضاء من الحضور المتبادل يتفتح فيه المعنى بشكل غير متوقع. ومع ذلك، فالتيسير ليس ممارسة أفقية بمعناها الساذج.
ويؤكد، "ستيفن بروكفيلد، " أن «مجرد القول إننا نسهل الحوار لا يلغي حقيقة أننا نمارس سلطة من خلال البنى التي ننشئها والإشارات التي نبعثها». وتهدف البيداغوجية التأملية التي يعتنقها "ستيفن" إلى «كشف ديناميات السلطة وإظهار آليات الهيمنة» . هذه الرؤية، المستوحاة من النظرية النقدية، تدعو الميسر إلى يقظة دائمة إزاء أشكال اللامساواة في المكانة، والهيمنة الضمنية، والأيديولوجيات المتجذرة حسب "هابرماس".
فمجرد خلق فضاء آمن لا يكفي؛ بل يجب أيضا تسمية الاختلالات، وإعادة توزيع الكلمة، وقبول الاختلاف والصراع .هكذا تعرف البيداغوجيا الميسرة بأنها ممارسة حوارية نقدية تظهر علاقات القوة وتتيح للجماعة فرصة تحويلها. من خلال تركيزها على التجربة المشتركة، يلتقي التيسير مع التربية التحولية في سعيها إلى الاستقلالية والتفكير الذاتي وتملك المعرفة. غير أنه يتجاوز النزعة الفردية، إذ لا يقتصر على «العناية بالذات» بل يدمجها في «العناية بالآخرين». وهنا تصبح الجماعة ذاتا متعلمة ومنتجة للمعنى والذكاء الجماعي. وهذا ما يسميه "بروكفيلد" «الفعل المستنير»، أي الفعل الواعي الذي يجعل التعلم ذا أثر ملموس.
فالغرض ليس التحول نحو «حقيقة خارجية»، بل بناء مشترك للمعنى يربط بين التحول الفردي والتحول الاجتماعي. بهذا المعنى، يتحرر التيسير من بيداغوجيا التحويل لأنه يرفض فكرة المعلم الذي يحتكر الحقيقة المتعالية، كما يتجاوز التربية التحولية لأنه لا يقتصر على الجهد الفردي، بل يربط العناية بالذات بالعناية بالعالم. وضمن هذا الإطار، يمكن وصفه، إذن، بكونه إيكولوجيا للمعرفة، تبنى فيها الحقيقة بشكل جماعي داخل وسط حي ومتجدد باستمرار. وتقربه هذه الرؤية من البيداغوجيات النقدية "لباولو فريري"، ومن المقاربات الحوارية المعاصرة التي تعتبر التحرر المتبادل عملية جماعية مستمرة.
وعليه، فالتيسير، ليس مجرد عملية تحويلية ولا تأملا ذاتيا خالصا، بل هو مسار تعلم يستجيب لتعقيدات العصر، بكونه ممارسة نقدية، وتحررية، قادرة على احتضان اللايقين وكشف البنى الخفية للسلطة بهدف تحويلها.
ويكتسي هذا الأمر ، في تقديري الخاص، أهمية بالغة، لأن المفهوم يحمل دلالات ومعاني دقيقة؛ وإذا لم يتم ضبطها بدقة، فقد يؤدي ذلك إلى انزلاقات في التفكير والممارسة، مما قد يهدد هذه المقاربة الواعدة، التي يفترض أن تسهم في إرساء رؤية تجعل من التيسير أداة استراتيجية لقيادة التغيير، ووسيلة لبلورة ثقافة مهنية مشتركة.
وفي هذا السياق، رجعت إلى ما كتبه "دونيس كريسطول" بتاريخ 8 أكتوبر 2025، حيث أكد أن تاريخ التربية الغربية يتأسس على نظامين رئيسيين في أنماط التعلم: يتمثل النظام الأول، فيما يمكن تسميته «بيداغوجيا التحويل». وقد ورث هذا النموذج عن التقليد الأفلاطوني والديانة المسيحية الأولى تصوره للتعليم باعتباره توجيها للروح نحو حقيقة متعالية. يمثل المعلم في هذا الإطار سلطة معرفية عليا، يبعد المتعلم عن عالمه الداخلي ليلتزم بمعيار أعلى. ويقوم الفعل التربوي هنا على علاقة عمودية بالمعرفة؛ فالمعلم هو الموصل إلى الحقيقة، يصحح المسار ويصادق على تقدم المتعلم وفق تعبير "هادوت". أما النظام الثاني، الذي يمكن تسميته «التربية التحولية» أو «التربية الميتامورفية»، فهو متجذر في الفلسفة الرواقية وفكرة «العناية بالذات» لدى الحكماء القدماء. المعرفة هنا لا تفرض من الخارج، بل تبنى عبر فحص الذات واستيعاب التجربة وتحول الشخصية. ويصبح المعلم، حين يوجد، مجرد مرافق يساعد كل فرد على اكتشاف حقيقته الخاصة في مسار للتحرر الذاتي من الإكراهات الاجتماعية حسب "فوكو".
غير أن التيسير، باعتباره فنا لمرافقة الجماعات في عملية التعلم، لا يندرج ضمن أي من هذين القطبين. فهو يشكل فضاء معرفيا ثالثا يجمع بين تحليل ومساءلة التجربة المعاشة، والنقد الاجتماعي، والغاية التحررية. هنا، يركز التيسير قبل كل شيء على التجربة الحية، إذ يهتم بما «يعاش هنا والآن» داخل التفاعل الإنساني، وبالحضور المشترك الذي ينشئ عالما جماعيا من المعنى. حيث يدعو التيسير إلى «تعليق الأحكام الجاهزة» من أجل استقبال الظاهرة كما هي حسب "هوسرل". فاللقاء التربوي ليس مجرد وسيلة لنقل المعارف، بل هو المجال الذي تتولد فيه المعرفة ذاتها.
وقد أظهرت دراسات حول بيداغوجيا الكبار أهمية اللحظة المشتركة في بناء المعنى. حيث لا يقدم الميسر دروسا أو عقائد، بل يهيئ تجربة جماعية تتحول فيها الكلمة، الصمت، الإيماء، والإنصات إلى مصادر للمعرفة. أما ما يعرف بـ«الحياد الفعال» فليس انسحابا، بل هو انفتاح واستعداد لخلق فضاء من الحضور المتبادل يتفتح فيه المعنى بشكل غير متوقع. ومع ذلك، فالتيسير ليس ممارسة أفقية بمعناها الساذج.
ويؤكد، "ستيفن بروكفيلد، " أن «مجرد القول إننا نسهل الحوار لا يلغي حقيقة أننا نمارس سلطة من خلال البنى التي ننشئها والإشارات التي نبعثها». وتهدف البيداغوجية التأملية التي يعتنقها "ستيفن" إلى «كشف ديناميات السلطة وإظهار آليات الهيمنة» . هذه الرؤية، المستوحاة من النظرية النقدية، تدعو الميسر إلى يقظة دائمة إزاء أشكال اللامساواة في المكانة، والهيمنة الضمنية، والأيديولوجيات المتجذرة حسب "هابرماس".
فمجرد خلق فضاء آمن لا يكفي؛ بل يجب أيضا تسمية الاختلالات، وإعادة توزيع الكلمة، وقبول الاختلاف والصراع .هكذا تعرف البيداغوجيا الميسرة بأنها ممارسة حوارية نقدية تظهر علاقات القوة وتتيح للجماعة فرصة تحويلها. من خلال تركيزها على التجربة المشتركة، يلتقي التيسير مع التربية التحولية في سعيها إلى الاستقلالية والتفكير الذاتي وتملك المعرفة. غير أنه يتجاوز النزعة الفردية، إذ لا يقتصر على «العناية بالذات» بل يدمجها في «العناية بالآخرين». وهنا تصبح الجماعة ذاتا متعلمة ومنتجة للمعنى والذكاء الجماعي. وهذا ما يسميه "بروكفيلد" «الفعل المستنير»، أي الفعل الواعي الذي يجعل التعلم ذا أثر ملموس.
فالغرض ليس التحول نحو «حقيقة خارجية»، بل بناء مشترك للمعنى يربط بين التحول الفردي والتحول الاجتماعي. بهذا المعنى، يتحرر التيسير من بيداغوجيا التحويل لأنه يرفض فكرة المعلم الذي يحتكر الحقيقة المتعالية، كما يتجاوز التربية التحولية لأنه لا يقتصر على الجهد الفردي، بل يربط العناية بالذات بالعناية بالعالم. وضمن هذا الإطار، يمكن وصفه، إذن، بكونه إيكولوجيا للمعرفة، تبنى فيها الحقيقة بشكل جماعي داخل وسط حي ومتجدد باستمرار. وتقربه هذه الرؤية من البيداغوجيات النقدية "لباولو فريري"، ومن المقاربات الحوارية المعاصرة التي تعتبر التحرر المتبادل عملية جماعية مستمرة.
وعليه، فالتيسير، ليس مجرد عملية تحويلية ولا تأملا ذاتيا خالصا، بل هو مسار تعلم يستجيب لتعقيدات العصر، بكونه ممارسة نقدية، وتحررية، قادرة على احتضان اللايقين وكشف البنى الخفية للسلطة بهدف تحويلها.
ذ. عبد العزيز سنهجي
الرباط، في 8 أكتوبر 2025
الرباط، في 8 أكتوبر 2025